35- كما أن الناس يختلفون في طباعهم وأشكالهم .. كذلك هم يختلفون في وجهات نظرهم .. وفي قناعاتهم وتصرفاتهم ..
فإذا شعرت أن أحداً خالف الصواب .. ونصحته وحاولت إصلاح خطئه ولم يقتنع ..
فلا تصنف اسمه من بين أعدائك .. وخذ الأمور بأريحية قدر المستطاع ..
فلو حاولت إصلاح خطأ عند أحد زملائك فلم يستجب .. فلا تقلب الصداقة عداوة .. وإنما استمر في التلطف فلعله أن يبقى على خطئه ولا يزيد ..
وقد قيل : حنانيك بعض الشر أهون من بعض ..
إذا تعاملت مع الناس بهذه الأريحية .. فلم تغضب على كل صغيرة وكبيرة .. عشت سعيداً ..
قالت عائشة رضي الله عنه :
ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط ..
وما ضرب شيئاً قط بيده .. ولا امرأة .. ولا خادماً .. إلا أن يجاهد في سبيل الله ..
وما نيل منه شيء قط .. فينتقم من صاحبه .. إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله .. ()
إذن .. كان صلى الله عليه وسلم يغضب .. لكنه غضبه لله .. لا يغضب لنفسه .. وحتى نفهم الفرق بين الغضبين :
افرض أن ولدك الصغير جاءك ذات صباح وطلب ريالاً أو ريالين مصروفاً للمدرسة .. فبحثت في محفظة نقودك .. فلم تجد إلا فئة الخمسمائة ريال .. فأعطيتها له .. وقلت :
هذه خمسمائة ريال .. اصرف منها ريالين .. وأرجع الباقي .. وأكدت عليه وكررت ..
فلما رجع بعد الظهر فإذا المال كله قد صرفه ..
فماذا ستفعل ؟.. وكيف سيكون غضبك ..؟ قد تضرب وتعنف وتمنعه من مصروفه أياماً ..
ولكن لو رجعت مرة من صلاة العصر ووجدته يلعب بالكمبيوتر .. أو عند التلفاز .. ولم يصل في المسجد .. فهل ستغضب كغضبك الأول ؟
أظننا نتفق أن غضبنا ألول سيكون أشد وأطول وأكثر تأثيراً من غضبنا الثاني ..
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان غضبه لله ..
وكان يعرض النصيحة أحياناً ولا تقبل .. فياخذ الأمر بهدووووء .. فالهداية بيد الله ..
قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك على حدود الشام ..
اقترب من مملكة الروم .. فبعث دحية الكلبي رضي الله عنه رسولاً إلى هرقل ملك الروم ..
وصل دحية رضي الله عنه إلى هرقل .. دخل عليه .. ناوله كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فلما أن رأى هرقل الكتاب دعا قسيسي الروم وبطارقتها .. ثم أغلق عليه وعليهم الدار فقال :
" قد نزل هذا الرجل حيث رأيتم .. وقد أرسل إليَّ أن يدعوني إلى ثلاث خصال .. يدعوني :
أن أتبعه على دينه ..
أو على أن نعطيه مالنا على أرضنا والأرض أرضنا ..
أو نلقي إليه الحرب ..
ثم قال هرقل :
والله لقد عرفتم فيما تقرأون من الكتب ليأخذن أرضنا .. فهلمَّ فلنتبعه على دينه .. أو نعطيه مالنا على أرضنا ..
فلما سمع القساوسة ذلك .. ورأوا أنه يدعوهم لترك دينهم ! غضبوا .. ونخروا نخرة رجل واحد حتى خرجوا من برانسهم .. أي سقطت أرديتهم من شدة الغضب والانتفاض !!
وقالوا : تدعونا إلى أن نذر النصرانية .. أو نكون عبيداً لأعرابي جاء من الحجاز .!!
أسقط في يد هرقل .. وأيقن أنه تورط بعرضه عليهم ..
وكان هؤلاء القساوية لهم سطوة وجمهور قوي ..
فعلم هرقل أنهم إن خرجوا من عنده .. أفسدوا عليه الروم ..
فجعل يهدئهم .. ويقول : إنما قلت ذلك لأعلم صلابتكم على أمركم ..
كان هرقل يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الرسول الذي بشر به عيسى صلى الله عليه وسلم ..
فأراد أن يتأكد من ذلك ..
دعا هرقل رجلاً من عرب قبيلة "تجيب" .. كان من نصارى العرب ..
وقال له :
ادع لي رجلاً حافظاً للحديث .. عربيَّ اللسان .. أبعثه إلى هذا الرجل بجواب كتابه ..
مضى ذاك التجيبي .. وجاء برجل من بني تنوخ .. من نصارى العرب ..
دفع هرقل كتاباً لهذا التنوخي ليوصله لرسول الله صلى الله عليه وسلم .. وقال له : اذهب بكتابي إلى هذا الرجل ..
فما سمعت من حديثه فاحفظ لي منه ثلاث خصال :
انظر هل يذكر صحيفته إلى التي كتب بشيء ..؟
وانظر إذا قرأ كتابي فهل يذكر الليل ؟
وانظر في ظهره هل به شيء يريبك ؟
مضى التنوخي كفارقاً للشام .. حتى وصل إلى تبوك ..
فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بين ظهراني أصحابه .. محتبياً على الماء ..
فوقف التنوخي عليهم .. وقال : أين صاحبكم ؟
قيل : ها هو ذا ..
فأقبل يمشي حتى جلس بين يديه ..
فناوله كتاب هرقل ..
فأخذه صلى الله عليه وسلم .. فوضعه في حِجْره .. ثم قال : " ممن أنت " .. ؟
قال : أنا أخو تنوخ ..
فقال صلى الله عليه وسلم : " هل لك إلى الإسلام .. الحنيفية .. ملة أبيك إبراهيم ؟
كان صلى الله عليه وسلم راغباً في دخول هذا الرجل في الإسلام ..
في الحقيقة لم يكن هناك ما يمنع التنوخي من اتباع الحق .. إلا التعصب لدين قومه .. فحسب !!
فقال التنوخي بكل صراحة : إني رسول قوم .. وعلى دين قومي .. لا أرجع عنه حتى أرجع إليهم ..
فما رأى صلى الله عليه وسلم هذا التعصب .. لم يغضب .. ولم يعمل مشكلة .. وإنما ضحك وقال :
" إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين " ..
ثم قال صلى الله عليه وسلم بكل هدوء :
يا أخا تنوخ ..
إني كتبت بكتاب إلى كسرى فمزقه والله ممزقه وممزق ملكه ..
وكتبت إلى النجاشي بصحيفة فخرقها والله مخرق ملكه ..
وكتبت إلى صاحبك بصحيفة فأمسكها .. فلن يزال الناس يجدون منه بأساً ما دام في العيش خير " ..
تذكر التنوخي وصية هرقل .. وقال في نفسه : هذه إحدى الثلاث التي أوصاني بها صاحبي ..
فخشي أن ينساها .. فأخذ سهماً من جعبته فكتبها في جنب سيفه ..
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ناول الصحيفة رجلاً عن يساره ..
فقال التنوخي : من صاحب كتابكم الذي يقرأ لكم ؟
قالوا : معاوية ..
بدأ معاوية رضي الله عنه يقرأ .. فإذا هرقل قد كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم :
تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين !! فأين النار ؟
فقال صلى الله عليه وسلم : " سبحان الله ! أين الليل إذا جاء النهار " .
فانتبه التنوخي أن هذه الثانية التي أمره هرقل بترقبها .. فأخذ سهماً من جعبته فكتبه في جلد سيفه ..
فلما أن فرغ معاوية من قراءة الكتاب ..
التفت صلى الله عليه وسلم إلى التنوخي .. الذي لم يقبل النصح .. ولم يدخل في الدين .. وقال له متلطفاً :
إن لك حقاً وإنك لرسول .. فلو وجدت عندنا جائزة جوزناك بها .. إنا سِفْر مُرمِلون ..
يعني أتمنى أن أعطيك هدية .. لكننا كما ترانا مسافرين جالسين على الرمال !!
فقال عثمان رضي الله عنه : أنا أجوزه يا رسول الله ..
ثم قام عثمان ففتح رحله .. فأتى بحلة ولباس فوضعها في حجر التنوخي ..
ثم قال صلى الله عليه وسلم الكريم : " أيكم ينزل هذا الرجل ؟ " .. يعني يقوم بحق ضيافته !!
فقال فتى من الأنصار : أنا ..
فقام الأنصاري وقام التنوخي يمشي معه .. وباله مشغول بالأمر الثالث الذي أمره هرقل أن يتأكد له منه .. وهو خاتم النبوة بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم ..
مشى التنوخي خطوات .. وفجأة .. إذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يصيح به :
" تعال يا أخا تنوخ " ..!!
فأقبل التنوخي يهوي مسرعاً .. حتى قام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ..
فحل صلى الله عليه وسلم حبوته .. ثم أسقط رداءه عن ظهره .. فانكشف ظهره للتنوخي .. فقال صلى الله عليه وسلم : " هاهنا امض لما أمرت به " ..
قال التنوخي : فنظرت في ظهره .. فإذا أنا بخاتم في موضع غضون الكتف مثل الحجمة الضخمة .. ()
فكرة ..
المقصود أن يدرك الناس أخطاءهم .. وليس شرطاً أن يصححوها أمامك .. فلا تغضب ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق